(أشعر بفراغ كبير، ولا أعرف كيف أستغله؟!).
(لدي الكثير من أوقات الفراغ، وليس لدي أي خطط لاستغلالها) مثل هذه التساؤلات وغيرها الكثير.
تدور في عقول الملايين من شباب الإسلام، لتوضح مدى توغل تلك المشكلة في حياتهم.
والكل يبحث عن حل لها ما بين نصائح لاستغلال الوقت، أو مواعظ بليغة في الحرص عليه والتحذير من التفريط في ساعات العمر.
أو طرح أفكار وحلول عملية تساعد الشباب في القضاء على أوقات فراغهم.
تلك الأوقات التي عرفها البعض بأنها: (فائض الوقت الذي يحتار الإنسان في كيفية شغله.
فقد تكون الكيفية سلبية؛ فتقود إلى نتائج وخيمة، أو إيجابية تؤدي إلى فائدة الفرد ومحيطه) [الشباب وأوقات الفراغ، د.عثمان سيد أحمد خليل، ص(32-33)].
فإذا كان لدى الشباب اليوم العشرات من الساعات، بل والأيام، التي لا يجدون لها مصرفًا إيجابيًّا.
ويحتارون في كيفية شغلها؛ فإننا ولاشك نعاني من مشكلة كبيرة، فالشباب هم عصب الأمة وساعدها الفتي، الذي يشدها إلى قمم التقدم والريادة، أو يهوي بها إلى قاع الفشل والتخلف.
ومن التساؤلات البدهية التي تطرق آذاننا وبشدة حين نتكلم عن موضوع وقت الفراغ: لماذا لم تمثِّل تلك المشكلة عائقًا أمام عظماء الأمة على مَرِّ العصور.
بدءًا من جيل الصحابة الكرام ومرورًا بالتابعين وتابعيهم، وانتهاءً بكل رجل أو امرأة ترك أثرًا في هذه الأمة؟!
فلم نقرأ يومًا أن صلاح الدين كان يشتكي من فراغ وقته، ولا أتانا نبأ قطز يتحسر على أوقات قضاها لم يُزِد فيها شيئًا.
ومن قبلهما صحابة النبي الكريم رضي الله عنه، لم نسمع أن أحدهم كان يشتكي من ضياع عمره بلا فائدة.
بوصلة الحياة:
والإجابة على هذه التساؤلات تضعنا أمام السبب الأكبر لتغلغل تلك المشكلة في واقع شبابنا؛ إنه غياب الأهداف.
ولا نقصد هنا هو غياب الأهداف المرحلية، من زواج أو نجاح في الجامعة أو الحصول على ترقية مناسبة في العمل.
كلا أيها الفاضل، وإنما نقصد غياب الهدف الكلي من الحياة، فأغلب الشباب إلا من رحم الله لا يصيغون حياتهم وفق أهداف محددة سابقًا؛ وبالتالي يبقى في جعبتهم الكثير من الأوقات غير المستغلة.
(إن الأهداف في الحياة هي بمثابة البوصلة الذاتية لكل إنسان، فهي التي تحدد له الاتجاه الذي ينبغي عليه أن يسلكه في هذه الحياة، وتشكِّل له إطارًا مرجعيًّا يستطيع أن يرجع إليه ليتخذ كافة قراراته.
أما الذي لا يملك أهدافًا؛ فإنه يخبط في حياته خبط عشواء، لا يدري أي الطرق يسلك، وإذا كنتَ قد قرأتَ قصة لويس كارول (أليس في بلاد العجائب).
فربما تتذكر معنا ذلك الحوار المعبِّر الذي دار بين تلك الفتاة (أليس) والقط الحكيم (تشيتشاير).
والذي يعبِّر عن هذا المعنى العام الذي نتحدث عنه، عندما تسأل (أليس) القطَّ (تشيتشاير) عن الطريق، فتقول: من فضلك هل لي أن أعرف أي طريق أسلك؟
يرد القط: يتوقف هذا إلى حدٍّ بعيد على المكان الذي تريدين الذهاب إليه.
تقول أليس: إنني لا أعبأ كثيرًا بالمكان.
يرد القط: إذًا؛ فلا تهتمي كثيرًا أي الطرق تسلكين.
تضيف أليس متسائلة: طالما أصل إلى أي مكان؟!
يرد القط: نعم، نعم، ستصلين بالتأكيد إلى مكان ما، بشرط أن تسيري كفاية.
وهكذا، إذا أردتَ أن تتخذ أي قرار في حياتك؛ مثل: في أي كلية تدرس؟ أي رياضة تمارس؟ أي مستوى مادي ينبغي أن تحصله؟ أي عمل تلتحق به؟
فعليك أولًا أن تحدد بوصلتك الذاتية؛ أي أهدافك التي سوف تسترشد بموجبها في جميع قرارات حياتك.
وإلا وقعت في دوامة من الفوضى والتخبط لا تنتهي إلا يوم وفاتك، وساعتها تكتشف مقدار الخسران الذي طالك في حياتك) [صناعة الهدف، هشام مصطفى عبد العزيز وآخرون، ص(84-87)].
أين القدوات؟
ثم يأتينا السبب الثاني من أسباب تلك المشكلة، وهو غياب القدوات الحيَّة الواقعية، التي تغرس في أطفالنا وشبابنا الاهتمام بالوقت والحرص عليه.
فكل ما يحيط بنا يغرس في نفوسنا منذ الطفولة قيمة الاستهتار بالوقت (وهي قيمة سلبية، يكتسبها الابن من المدرسة أو من البيئة المحيطة.
وذلك من انتظاره الطويل لدوره أو لقضاء مصلحته أو لتلقي ردٍّ أو مشورة، فالابن ينتظر طويلًا أمام حجرة مدير المدرسة وأمام حجرة المعلمين، وحتى في الفصل، فهو ينتظر وصول المعلم وينتظر دوره في المناقشة... وهكذا.
ويحدث ذلك ومثله أو أكثر منه مع الابن في البيت أو النادي أو المسجد.
ولكن مع الاختلاف النوعي وحسب الظروف؛ فيترسخ لدى الطفل قيمة التسويف والتأجيل، على الرغم أن من حوله لم يقصدوا أن يرسِّخوا فيه تلك القيمة السلبية) [كيف تغرس القيم في طفلك، د.محمد أمين صديق، ص(26)].
ومن ثَم؛ فنحن جميعًا ننشأ على التسويف والتأجيل، ونتربى على إهمال الوقت وعدم الحرص عليه.
على عكس سلفنا الصالح الذين كانوا حريصين أشد الحرص على أوقاتهم، لا يفرِّطون في ساعة من ساعات يومهم، بل يتعاملون مع أوقاتهم تعامل التاجر الماهر مع رأس ماله وبضاعته.
قال عمر بن ذر: (قرأت كتاب سعيد بن جبير: اعلم أن كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة) [حلية الأولياء، أبو نعيم، (2 206)].
وقال طيفور البطامي: (إن الليل والنهار رأس مال المؤمن، ربحها الجنة، وخسرانها النار) [الزهد الكبير، البيهقي، ص(297)].
وقال ابن القيم رحمه الله: (فإن السَنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها.
فمن كانت أنفاسه في طاعة؛ فثمرته شجرة طيبة، ومن كانت أنفاسه في معصية؛ فثمرته حنظل) [الفوائد، ابن القيم، (1 164)].
حضيض الهمم:
ثم تأتي الهمة الضعيفة لتضيف سببًا ثالثًا من أسباب مشكلة الفراغ، فمن سَمَت همته عن الدنايا وتطلع إلى معالي الأمور؛ فلن يكون هناك متسع في حياته لينشغل بالتافه من الأمور، أو الدون من المشاغل.
وعلى العكس من ذلك؛ فمن حامت همته حول سفاسف الأمور، فلن يعدم فراغًا هنا أو هناك. فلا تقوى همته على الانشغال بالعظائم وصرف الأوقات والأعمار فيها، وإنما تزين له همته الضعيفة توافه الأمور، فينتقل من فراغ إلى فراغ.
وينبيك ابن الجوزي عن أهمية علو الهمة في صيد خاطره، فيقول: (من أعمل فكره الصافي؛ دلَّه على طلب أشرف المقامات، ونهاه عن الرضا بالنقص في كل حال، وقد قال أبو الطيب المتنبي:
ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا *** كنقص القادرين على التمام
فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يتصور للآدمي صعود السماوات؛ لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد؛ رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض.
غير أنه إذا لم يمكن ذلك؛ فينبغي له أن يطلب الممكن، والسيرة الجميلة عند الحكماء خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل) [صيد الخاطر، ابن الجوزي، ص(173-174)].
وهذا القائد الداهية أبو مسلم الخراساني، الذي أسقط دولة بني أمية ووطد أركان الدولة العباسية، كانت له طموحات عظيمة تدفعه إليها همته العالية؛ فما عاش فارغًا.
وما اشتكى من سعة الوقت، حتى إنه عندما كان صغيرًا كانت أمه تراه يتقلب على فراشه فتقول له: (أي بني ما بك؟ فيقول: همة يا أمي تناطح الجبال) [صناعة الهدف، هشام مصطفى عبد العزيز وآخرون، (59)].
بُعد عن الله:
ثم يأتي خاتمة الأسباب التي تملأ حياة الكثيرين بالفراغ، إنه ضعف الإيمان والبُعد عن الله تعالى.
فمن عرف ربه خير المعرفة وأدرك حقيقة الدنيا؛ عرف أنه مسافر إلى ربه وزاده هو عمره، فيجدَّ في العمل ويصرف أوقاته فيما يعود عليه بالنفع والفائدة.
أما البعيد عن ربه ومولاه، الذي تعلَّق قلبه بالدنيا وغرَّته زينتها، فهو المغرور المخدوع الذي اشتهى الزائف من الزخارف والحلي.
وانشغل بها عن حقيقة رحلته إلى ربه، ولم يعلم أن الدنيا وسيلة وليست غاية، ومن الحمق أن يعمينا انشغالنا بتحصيل الوسائل عن غاياتنا المنشودة.
ألم يأتكَ أيها الحبيب نبأ عمر بن عبد العزيز حين نصح إخوانه، فقال: (إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب الله على أهلها الظعن [يظعن، أي ذهب وسار].
فكم من عامر موثق عن قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسِنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) [حلية الأولياء، أبو نعيم، (5 292)].
(فكم يضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل؟!
وهذه الأيام مثل المزرعة، فكأنه قيل للإنسان: كلما بذرت حبة؛ أخرجنا لك ألف كُرٍّ [مكيال لأهل العراق]، فهل يجوز للعاقل أن يتوقف في البذر ويتوانى؟!) [صيد الخاطر، ابن الجوزي، (1 162)].
والأمر كما قال الحسن: (ابن آدم، إنك بين مطيتين يوضعانك؛ الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل حتى يسلمانك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا ابن آدم خطرًا؟!) [الزهد الكبير، البيهقي، ص(204)].
ماذا بعد الكلام؟
ـ اكتب في ورقة، الأهداف التي تريد أن تحققها في حياتك، وقسمها أهداف طويلة الأجل كالتحضير لماجستير في علم النفس.
وأهداف قصيرة الأجل كالانتهاء من قراءة كتاب من الكتب، ثم ضع وقتًا زمنيًا لفعل ذلك.
المصادر:
• الشباب وأوقات الفراغ، د.عثمان سيد أحمد خليل.
• صناعة الهدف، هشام مصطفى عبد العزيز وآخرون.
• كيف تغرس القيم في طفلك، د.محمد أمين صديق.
• حلية الأولياء، أبو نعيم.
• الزهد الكبير، البيهقي.
• الفوائد، ابن القيم.
• صيد الخاطر، ابن الجوزي.
المصدر: موقع مفكرة الإسلام